نعم، نحن من صنعناهم، نحن من توجناهم بتاج العز والشرف، قلدناهم بقلادة حب نقي كانوا لا يستحقونها أبدًا، أسكناهم بطيبة منا أو ربما بجهالة أتت من فيض عفوية نابعة من جوف قلوب طاهرة اتسعت عالمًا بأكمله، أنزلناهم منازل الكرام فضلًا منا، مكناهم -برقة مشاعرنا، برهافة حسنا، بطيبتنا الغالبة علينا- من التدخل بكل جرأة في أدق شئوننا، منحناهم فوق قدرهم قدرًا فضفاضًا لا يلائمهم.
رأيناهم كبارًا في الأصل صغارًا لا يوجد من هو أصغر منهم، أعطيناهم من الاستحقاقات ما جعلهم يبررون لأنفسهم الاقتراب منا أكثر من اللازم، يطلق عليهم البعض في عصرنا هذا لفظة -النرجسيون- ونحن نطلق عليهم لفظة المحتالين، وأظن أن كلاهما حق.
رأوا أنفسهم بمرآة عيوننا في صورة أعلى، صورة لا تمثلهم، لا تحاكيهم، لا تعبر عنهم، شبوا ثم قفزوا، ثم تعملقوا فجأة، في لحظة غلبت علينا عاطفة إنسانية طاغية إلى حد التطرف، حدث هذا وسط حالة من الاسترخاء مكنت لهم الخروج من تحت عباءة تفكيرنا غير المنطقى.
حالة من تخلٍ واضحٍ، وعن تراض منا، لإدراك كل ما يأتي في غير صالحهم، نكذب أنفسنا لأجلهم، نغلق أعيننا لكي نحتفظ بهم، وكأننا ارتضينا وجودهم في حياتنا ولو بالوهم، في لحظة هيأت لهم الظروف فيها صعودهم إلى جوارنا، حتى ظنوا أنهم المتساوون معنا، ما دفع بهم للوقوف في ميداننا بكل ثقة، فوق نفس الأرض، وعلى نفس الخط.
انطلقوا في طريقهم الجديد، طريقنا نحن المزدان بالزهر، المفعم بالنسمات والعطر، طريق لم يكونوا ببالغيه لولا تواضع جم منا نتج عنه ما نتج منهم، راحت خطواتهم تسابق خطواتنا، تزاحمنا تطاولًا وغرورًا، فنحن من منحناهم من نورنا الساطع الفرصة للمرور بأرضنا، بجنتنا المحرمة عليهم.
كثيرون هم من حولنا، أراهم كما تراهم أنت، أجد فيهم المتسلقين الساعين لتحقيق ما يصب في مصالحهم وحسب، لقد سعوا وبكل طاقتهم لتقزيم جهودنا، والنيل منا بتطاول مقنع في البداية وسرعانًا ما يعلنونه ويفصحون عنه، إنهم من يتعجلون دومًا، يتوقون لرفعة ورقي ولو جاء هذا على حساب غيرهم، هذا منهجهم الذي يطبقون بنوده بكل حذافيرها، ولو تم هذا التطلع على حساب خصوصية الغير وعلى سلامهم النفسي.
الخطأ لم يكن خطؤهم منذ البداية؛ إنما اللوم يقع علينا أولًا، نحن من أدخلنا الغرباء ساحتنا، آوينا اللئام ومكنا لهم، أعطيناهم فوق ما تمنوا أو ما حلموا به، لذا فلا داعي للهرب من لحظة صدق مع النفس، كان علينا أن نتحرى الأمر، نتريث قبل أن نقبل بوجودهم، كان علينا أن نتفحص الصورة جيدًا، نستشف من خلال تفاصيلها طبيعة أغراضهم وخفايا أنفسهم.
نقترب لنتعرف على حقيقتهم التي توارت واختبأت خلف غموضهم المصطنع، ننزع عنهم قشرة الاستكانة، قشرة الضعف اللامعة البراقة، تلك الخدعة التي تعقبها غالبًا دموع كاذبة يسكبونها إذا ما تتطلب الأمر.
كثيرًا ما نخطئ حين نظن خيرًا بكل من حاول الاقتراب منا، علينا أن نتعلم وضع حدود لبراءتنا، حتى لا نندم على لحظة شكلناهم فيها بأيدينا، صورناهم بأبعاد تمكنهم من الظهور على غير طبيعتهم، أكبر من حجمهم، كنا نحسبهم ملائكة وهم في الأصل شياطين، بل إنس بارعون في تحفيز المشاعر الإنسانية للآخرين واستغلالها أسوأ استغلال، نحن من خدعنا أنفسنا بالأمل في قدرتنا على تغييرهم، على إعادة صياغتهم، حتى وصلنا لدرجة من اليقين تهيء لنا قدرتنا على تهذيبهم وتعديل سلوكهم.
هيا ننسحب الآن انسحابًا أنيقًا يليق بنا، وليكن هجرنا لهم هجرًا جميلًا، تلك هى أخلاقنا النبيلة التي تربينا عليها، أما هم فدعوهم يعودوا كما جاءوا غرباء، اتركوهم يدورون في ساقية حمقهم وغرورهم، يتداولون بينهم كؤوس الغيرة والحقد والحسد، فالأناقة فينا طبع أصيل، والتدني فيهم طبع راسخ لن يتغير.
وفاء أنور – بوابة الأهرام
Leave a Reply