بينما تتطور تقنيات الذكاء الاصطناعي بوتيرة مذهلة، يُعاد تشكيل سوق العمل عالميًا بشكل جذري على نحو شكل مختلف عما اعتدنا عليه لعشرات، بل ربما لمئات السنين. فقد بدأت بعض المهن تتراجع تدريجيًا، في حين تظهر وظائف جديدة لم تكن مألوفة من قبل. هذا التحول لا يعني بالضرورة أمرًا سلبيًا، لكنه يدعونا إلى التأمل والاستعداد..
فالوظائف التي بدأت تختفي تدريجيًا، تلك التي تعتمد على التكرار أو الجهد اليدوي البسيط، مثل بعض الأعمال في المصانع أو مهام إدخال البيانات، كما أن تطور السيارات ذاتية القيادة قد يؤدي في المستقبل إلى تقليص الحاجة إلى سائقي الشاحنات وسيارات الأجرة، حتى بعض الأعمال المكتبية، كإدارة الملفات أو الرد على المكالمات، يمكن أن تقوم بها برامج ذكية اليوم بكفاءة عالية.
في المقابل، هناك فرص جديدة تتشكل مع هذا التقدم. فالمجالات التقنية أصبحت بحاجة إلى مختصين في تحليل البيانات، وبرمجة الأنظمة الذكية، وحماية المعلومات من الاختراقات، وإنترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد والذكاء الاصطناعي، كما أن هناك اهتمامًا متزايدًا بمهن مرتبطة بالصحة النفسية، والطاقة المتجددة، والبيئة، وكلها مجالات ستزداد أهمية في السنوات القادمة.
ربما يبدو هذا التغير مخيفًا للبعض، خاصة لمن عاشوا عقودًا في وظائف مستقرة وواضحة، لكن الحقيقة أن سوق العمل كان دائمًا في حالة تطور، وما نراه اليوم هو مجرد مرحلة جديدة من هذا التغير الطبيعي، والأهم هو أن نواكب هذه المرحلة بالتفهم والانفتاح، وأن ننقل خبراتنا للأجيال الشابة، ونشجعهم على التعلم المستمر واكتساب المهارات الجديدة.
ولم يعد التهديد محصورًا في المهن البسيطة أو الروتينية، بل بدأ يطال حتى الوظائف الرفيعة التي طالما اعتُبرت “محمية”، مثل الطب، المحاماة، الهندسة، والفنون.
ففي مجال الطب؛ فإن الذكاء الاصطناعي طبيب مساعد لا بديل، فالتشخيص من خلال تقنيات مثل ChatGPT أو IBM Watson أثبتت قدرتها على تحليل أعراض وتشخيص أمراض بدقة مذهلة. وفيما يخص الأشعة والتحاليل، فإن أدوات الذكاء الاصطناعي تتفوق أحيانًا على أطباء الأشعة في قراءة الصور.
لكن، من غير المتوقع أن تختفي مهنة الطب، لأن العلاقة الإنسانية بين الطبيب والمريض، والقدرة على اتخاذ قرارات أخلاقية معقدة، أمور لا يمكن استبدالها بالآلة.
ومهنة الهندسة تتغيّر لكنها لا تختفي، والذكاء الاصطناعي بدأ يلعب دورًا مهمًا في الهندسة المعمارية من خلال برامج تساعد في إنشاء تصاميم مبدئية مذهلة في دقائق. وفي الهندسة المدنية والميكانيكية، هناك أدوات تحليل تعتمد على الذكاء الاصطناعي أصبحت تكتشف الأخطاء وتُحسّن الأداء.
لكن، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل الحكم الهندسي البشري الذي يتطلب فهم السياق والقيود البيئية والاجتماعية. لذلك، ستتغير طبيعة العمل، لكنها لن تختفي.
وفيما يخص الفنون التشكيلية والوظائف الإبداعية، فإن الذكاء الاصطناعي اليوم قادر على توليد لوحات فنية مذهلة وتقليد أنماط كبار الفنانين وخلق موسيقى وقصائد ونصوص. ومع ذلك، يبقى هناك فرق كبير بين “إنتاج” الفن و”إبداعه”، والذكاء الاصطناعي يمكنه المحاكاة، لكن لا يملك تجربة، ولا شعورًا، ولا قصة شخصية وراء العمل.
أيضًا، تشهد المهن الإعلامية والتحريرية تغيرًا ملحوظًا، حيث أصبحت بعض المنصات تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنتاج الأخبار والتقارير، مما يهدد “بعض” وظائف الصحفيين والمحررين، لا سيما في المجالات الروتينية والتقارير المتكررة.
أما مهنة المحاماة فإن الذكاء الاصطناعي يهدد القواعد؛ لكنه لا يفهم العدالة، بالنسبة لصياغة العقود والأبحاث القانونية، هناك أدوات أصبحت توفر ساعات من العمل القانوني في دقائق. والاستشارات البسيطة والقضايا المتكررة يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتولاها.
لكن، المحامي الحقيقي لا يقتصر دوره على النصوص. الإقناع، قراءة القضاة، التفاوض، والعنصر الإنساني كلها جوانب لا يمكن تقليدها بشكل كامل.
إن زحف الذكاء الاصطناعي لا يعني بالضرورة كارثة، لكنه يتطلب تأقلمًا سريعًا ومهارات جديدة، والأفراد الذين يستثمرون في المهارات الإبداعية والإنسانية سيكونون أكثر قدرة على الصمود في سوق عمل يتغير بسرعة.
ومن المهم التأكيد على أن الذكاء الاصطناعي لا يستهدف الوظائف بقدر ما يستهدف الجزء المتكرر منها، فالمهني الناجح في المستقبل هو من يدمج الإبداع، التواصل، والمهارات البشرية العميقة مع أدوات الذكاء الاصطناعي ليصبح أكثر كفاءة وتميّزًا.
ولا يعني التقدم التكنولوجي نهاية الفرص، بل بداية لفرص مختلفة، وما دامت هناك حاجة إلى الإبداع، والإنسانية، والخبرة، فإن لكل جيل دوره ومكانه في بناء المستقبل.
حسن فتحي – بوابة الأهرام
Leave a Reply