مؤانسة عن الموقف من الدعوة لمفاوضات السلام بجنيف، تفحص الخطاب وإستعدال النقاش….
قدمت الخارجية الأمريكية دعوة لعقد جلسات تفاوضية مباشرة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع (المتمردة) التي يقودها محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي ، تاتي هذه الدعوة في ظل ظروف تتزاحم فيها المبادرات الاقليمية والدولية لمعالجة الصراع المتطاول أمده في السودان، والذي يمضي حالياً للعام والنصف.
جاءت هذه الدعوة (دعوة الخارجية الأمريكية) بعد ثلاث لقاءات على الاقل عقدت للقوى السياسية المدنية التي طال خلافاتها بنادق المتقاتلين في الميدان حالياً، فعقدت ثلاث جلسات في العواصم المختلفة بينها جنيف فضلا عن القاهرة وأديس أبابا، وبرعايات مختلفة ، الخارجية السويسرية والمصرية والاتحاد الأفريقي على التوالي، شجعت هذه المبادرات الخارجية الأمريكية لحزم موقفها ، فكل خارجية تبادر فنحن الخارجية الكبيرة لما لا نقوم؟ وقررت الاتجاه هذا بعد محاولات منها إعادة إحياء منبر جدة الذي وصل الى موت سريري بسبب عدم تنفيذ الإعلان الموقع في أيار مايو العام الماضي 2023م والذي الزم قوات الدعم السريع (المتمردة) من ناحية بالخروج من المنازل والأعيان المدنية، كما شمل الاتفاق وقفاً لإطلاق النار وفصلا بين القوات. ولكن لضعف آليات تنفيذ هذا الإعلان وغياب المراقبة عليه ظل حبيس الأوراق لا يطالب به إلا القوات المسلحة وحكومة السودان ، في ظل تهرب للمتمردين عنه وكذلك صمت الوساطة عن دفعهم للتنفيذ .
ثمة حدث طافر هرول بجهود إنهاء القتال في السودان هو زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي احمد الي بورتسودان كأول رئيس حكومة يضع رجله فى بورسودان (العاصمة الإدارية المؤقتة للحكومة) بعد اندلاع الحرب في الخرطوم في نسيان ابريل 2023م، وآبي احمد يفعلها مجدداً بعد أن قام بزيارة جريئة وتاريخية الى أرتريا في تموز يوليو 2018م أنهى بها حالة القطعية بين بلاده ونظام الرئيس أسياس افورقي التي أمدت لأكثر من عشر سنوات، قادت جهوده هذه إلى المصالحة بين البلدين، مما منحته جائزة نوبل للسلام في كانون الأول ديسمبر 2019م.
ولا يخفي على متابع أن الرسالة التي حملها رئيس الوزراء الإثيوبي ظهرت نتائجها في الاتصال المفاجئ الذي جرى بين رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد، والتي أوغلت نفسها في الصراع المسلح في السودان بدعمها للمتمردين وتسببها في صب المزيد من الزيت على نار الحرب في السودان.
دعوة الادارة الأمريكية بواسطة وزارة الخارجية جاء ايضا بعد جولة المفاوضات الإنسانية التي قدمها المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة السيد رمتان لمامرة في جنيف في الشهر الجاري، وكذلك بعد الإجتماع التنسيقي الذي أقامته أمس الأول الإيقاد في العاصمة الجيبوتية جيبوتي بغرض التنسيق بين الأطراف كافة التي تسعى للتوسط لحل الصراع في السودان، والذي من المتوقع أن يخرج الاجتماع بآلية مشتركة تقود الوساطة في المسار السياسي فضلا عن العسكري الذي وضعت الولايات المتحدة يدها عليه.
مواقف متباينة:
بعد الإعلان عن الدعوة سارعت قوات الدعم السريع (المتمردة) بقبولها لها وكأنها كانت على علم بها قبل صدورها ، ولكن فسر الكثيرين بانها بذلك تريد تحسين صورتها في هذا المنبر الدبلوماسي الذي يحظي باهتمام دولي، وتسعى ايضاً لنصب فخ للقوات المسلحة باعتبار نفسها قوى للسلام والأخرى قوى للحرب اتساقاً مع دعاويها وخطابها وهي من ابتدرت الحرب وغيره وتقول ايضا بأن مركز القرار غير موحد عندها ، وهذا خطاب ظل يسوق من الكثير من متحدثيها المبذولين في الفضاء الإعلامي .
كذلك قامت جبهة تقدم بالترحيب بالدعوة وهي ايضا يصنف موقفها المرحب بالمتناقض وياتي في اطار التسويق السياسي لنفسها في بزار الدبلوماسية الدولية، وأستغرب الكثيرين بأنها تعذرت قبل أسبوعين تقريباً بحجج غير متماسكة ورفضت دعوة الإتحاد الأفريقي للإجتماع التحضيري في أديس أبابا وتسعى اليوم بملء فيها بان تقول تناقضا لقيادة الجيش اذهبوا وفاوضوا، فقبول الدعوة يجب أن يكون موقفاً يصدر من الجهات التي تتعامل بايجابية مع المبادرات لحل الصراع المدني -مدني والعسكري -العسكري!.
في المعسكر الاخر بجانب القوات المسلحة تباينت الاراء وهذا طبيعي لتباين القوى السياسية الوطنية التي قررت الانحياز لمؤسسات الدولة الشرعية، والتي قد لا تتفق في شي سواه .
يمكننا إجمال المواقف في نقاط متعددة أولها بأن المفاوضات في جنيف مجرد خطوة سياسية غير ذي جدوى سيما وان هنالك جلسات سبقت واتفاق وقع في جدة وتم نقضه ، هذه الحجة صحيحة ولكن كما يقال في الدارجة حتى (الكضاب وصلو الباب )، فجدة كإتفاق وقع ولم ينفذ ولكنه كان مجرد إعلان من الطرفين ، حوت بنود لربما إفتقد حينها الإلحاق بمصفوفة التنفيذ وآليات المراقبة والتبليغ ، كما ايضاً جدة وقعت قبل الجنينة وقبل الجزيرة وقبل نيالا بل وقبل سنجة، لذلك تحتاج جدة نفسها كنصوص لتحديث في جدة أو غيرها، لذلك يمكن أن تعتبر جنيف جولة مكملة لإحكام تنفيذ جدة ومخاطبة التطورات الميدانية الحديثة التي طرأت على الأرض بعد التوقيع على إعلان جدة.
الحجة الأخرى يطرحها بعض الرفاق في حركات الكفاح المسلح بضرورة أن لايكون طرفين فقط في طاولة التفاوض بإعتبارهم قوى تحارب الان وبالتالي يجب أن يكون لها مكان في الطاولة ! هذه الحجة فيها صحة فطالما المسار أمني لا أرى حرج من تواجد هذه الحركات على الأقل لإسكات جميع أصوات البنادق وتوحد القطاع الأمني عملاً بتجارب فشل، تجزئة مخاطبة الملف الأمني والذي لم يحقق نتائج إيجابية ، ولكن لا يجب أن يوضع ذلك كشرط مسبق، وهنالك مرحلة ما يجب أن تتواجد القوى السياسية كطرف ولو مراقب في الترتيبات الأمنية، لان القضية الأمنية لم تعد تهم الجهات المسلحة لوحدهم.
مواجهة امريكا ام موافقتها : قد لا يتحسب الكثيرين من ردة فعل الادارة الاميركية المنتهية ولايتها في الست أشهر القادمة تجاه الأفراد والمؤسسات، حال مقاطعة هذه الدعوة، فلا يستبعد الكثيرين ومن خلال الزخم الدبلوماسي الكبير لمفاوضات جنيف هذه قد تتسبب في عقوبات بحق المؤسسة والأفراد حال اتخاذ موقف سلبي تجاهها، وهذا لا يجب أن نسمح ونهدي نصر مجاني لخصوم القوات المسلحة واعدائتها، قيادة القوات المسلحة عليها أن تتخذ القرار الذي لن يضر بمصالح الشعب في المقام الأول وبمؤسسة القوات المسلحة في المقام الثاني وبقيادتها ايضاً، ولا انصح بمواجهة امريكا بل أدعو لمحاورتها مهما كان الموقف، على الاقل لدينا جبهة واحدة ليس من الحكمة فتح جبهة جديدة ودولية، واي رفض للدعوة اعتقد سيوضع في اطار المواجهة .
الموقف من وجود الإمارات : كان هذا الموقف سليما مقاطعتهم ورفض تواجدهم ولكن بعد الاتصال الذي تم بين البرهان وبن زايد فلا جدوى من التمسك بمقاطعة تواجد الإمارات سيما وان القاهرة ربط تواجدها بابوظبي، وحوجتنا لمصر لم ولن تنقطع.
الوضع الانساني والاقتصادي: لربما بدأ واضحاً ان الحرب التي شنت على القوات المسلحة بدأ يظهر آثارها السلبية على المواطنين ففضلا عن النهب والتشريد والقتل وانعدام الأمن والمنع من الزراعة وتدمير البنية التحتية الصناعية للبلد فقد منعت وحوصرت بعض المناطق من وصول المساعدات الإنسانية وكذلك توقفت حركة التجارة والصادرات مما اثر سلبا على حياة المواطنين في داخل مناطق الحرب او في المناطق الآمنة او حتى في مناطق اللجوء بالخارج، حيث الاعتماد الأساسي على التحويلات المالية من الداخل والخارج عبر المصارف والتطبيقات المالية السودانية ، فتدهور سعر الصرف اثر بشكل كبير على حياة المواطنين، لذلك تقع على قيادة القوات المسلحة وهي قيادة الحكومة في نفس الوقت البحث عن اكثر من مخرج وإيجاد تسهيلات خارجية على الاقل بعد التوصل لاتفاق لإعادة إنعاش الاقتصاد الوطني وإحلال الأمن الغذائي للبلاد، هذه جزئية لا تتوفر لها اجابة في ظل رفض دعوات التفاوض فقد تزيد الممانعة من العزلة والتضييق المالي على الحكومة وهذا فخ يجب تفادي الوقوع فيه أيضاً.
في الختام أدعو بأن لا يمارس ضغط على قيادة الجيش لدفعها لرفض الإستجابة لدعوة الخارجية الأمريكية لأن ذلك سيترتب عليه عواقب لا نستطيع التحسب لها، بل ينبغي أن ينحصر الاهتمام بماذا سوف طرح في الطاولة وبأي سقوفات؟ والهدف المراد تحقيقه من خلال المشاركة ، وما هي العليا وماهي الخطوط الحمراء وكيف سيكون مستوى الوفد وكيفية التشاور وهكذا، ولربما نذهب أبعد أن يعرض الإتفاق حتى بالقضايا المختلف حولها للإستفتاء لاحقاً ليقرر بشأنها الشعب، هذا هو المسار السليم يجب تحزم فيه قيادة الجيش نفسها وتذهب ، فمثلما تمنح الثقة لخوض حرب الدفاع عن البلاد يجب أن تمنح في منبر التفاوض ايضاً والذي هو الأصل واما الحرب فهي حالة استثنائية واستمرار للسياسة ولكن بطريقة اخرى كما قال كلاوفتس.
مبارك أردول
26 يوليو 2024م